إسبانيا تستعيد زعامة أوروبا كروياً وتكرّس تفوّقها في اللعب الجماعي

بعد فوزها في الأعوام 1964 و2008 و2012 بكأس أوروبا، فازت إسبانيا للمرة الرابعة بالكأس هذا العام 2024، متفوّقة على ألمانيا، صاحبة الثلاثة ألقاب (1972 و1980 و1996)، وكل من إيطاليا وفرنسا الحاصلتَين على لقبَين (1968 و2020 للأولى، و1984 و2000 للثانية)، في حين فاز باللقب مرّة واحدة كلً من الاتحاد السوفياتي (1960) وتشيكوسلوفاكيا (1976) وهولندا (1988) والدانمارك (1992) واليونان (2004) والبرتغال (2016).

وجاء التتويج الإسباني مُستحَقّاً في بطولة منخفضة المستوى بدت أساليب لعب معظم منتخباتها رتيبة، ولم نشهد من أمور استثنائية فيها سوى بعض الأهداف الجميلة وفقرات محدودة في عدد من المباريات ارتفع مستوى عطاء اللاعبين والفرق خلالها، إضافة الى شوطٍ أو أكثر من التشويق وتماسك الأداء وقوّته في كلّ مباراة كانت فيها إسبانيا طرفاً. والأرجح أن الشوط الثاني من المباراة النهائية التي جمعت الإسبان والانكليز، وبعض مجريات مباراة إسبانيا وألمانيا كانت أفضل ما شاهدناه كروياً في هذه المسابقة، التي وصل إليها قسم كبير من اللاعبين مُنهكين بعد مواسم كروية طويلة ومسابقات وطنية وقارية استنفدت طاقتهم البدنية.

الحظ ثم التراجيديا الإنكليزية

إذا كانت منتخبات غير مرشّحة للتنافس على اللقب مثل ألبانيا وجورجيا وسلوفاكيا وسلوفينيا قد نجحت في مجاراة المنتخبات العريقة واللعب بندّية معها، وإذا كانت تركيا قد بلغت الربع النهائي وخرجت منه بعد أخطاء قاتلة في مباراة تسيّدت شوطاً ونصف الشوط فيها ضد هولندا وسجّلت إثنين من أجمل أهداف البطولة، فإن سوء طالع فرقٍ أُخرى أكثر شأناً وتمرّساً في المسابقات الكبرى جعلها تتواجه مبكراً و"تصفّي" بعضها. هكذا أخرجت سويسرا حاملةَ اللقب إيطاليا (التي سبق وأقصت المنتخب الكرواتي)، وأنهت فرنسا آمال كريستيانو رونالدو وبيبي والبرتغال، في حين وقعت ألمانيا، ثاني أفضل منتخبات البطولة أداءً بعد الإسبان، في مواجهة الأخيرين في الربع نهائي وخرجت.

في المقابل، رافق حسن الطالع المنتخب الإنكليزي الذي لم يتواجه قبل النصف نهائي مع أي فريق ذي خبرة واسعة في استحقاقات كبرى. ومع ذلك، لم ينقذه من السلوفاك سوى المهارة الفردية لبلينغهام في الدقيقة الأخيرة من المباراة، ثم أخرج السويسريين بركلات الجزاء الترجيحية في الربع النهائي، وتكفّل البديل واتكينز في تأهيله الى المواجهة النهائية بعد أن أطاح هدفه – في الدقيقة الأخيرة – بالخصم الهولندي في النصف النهائي المتكافئ.

على أن حسن الطالع لا يفسّر الكثير في كرة القدم. وهو غالباً ما يُلازم الفرق التي تمتلك أفراداً استثنائيين وبدلاء قادرين في ربع ساعةٍ على تعديل إيقاع اللعب، أو تلك التي يبقى تركيزها الذهني متوقّداً حتى الثانية الأخيرة فتتجنّب ارتكاب الأخطاء الفردية والجماعية.

ولا شكّ أن الإنكليز يمتلكون الأفراد المميّزين والبدلاء الجيّدين والقوة الذهنية. لكنهم ما زالوا منتخباً لا ألقاب له، إذا ما استثنينا الكأس العالمية الوحيدة التي فازوا بها العام 1966 على أرضهم.

ورغم بلوغهم النهائي الأوروبي للمرة الثانية على التوالي، إلاّ أنهم خسروه للمرّة الثانية على التوالي أيضاً، ولم يتمكّنوا من مجاراة الإسبان إلا في فقرات محدودة من المباراة، في شوطها الأول التكتيكي والمقفل، ولعشر دقائق فقط تلت تسجيلهم هدف التعادل في الشوط الثاني.

وإنكلترا التي تمتلك المسابقة الوطنية الأعلى تنافسية ومستوى وشعبية في أوروبا والعالم، تبدو على الدوام مفتقرةً كمنتخب الى عامود فقري لا تعوّض غيابه جودة اللاعبين الأفراد وسرعتهم وصلابتهم البدنية. والأرجح أن لذلك علاقة بنقص الانسجام في ما بينهم، كأفرادٍ وافدين من نوادٍ عديدة تختلف عقليّات مدرّبيها ومقارباتهم، وتخوض جميعها مواجهات قاسية ومُرهقة على مدار السنة. ومع أن ساوثغيت حسّن كثيراً من نتائج المنتخب الإنكليزي منذ تولّيه تدريبه، لكنّ التحسّن لم يتحوّل بعد الى فوز بلقبٍ اقترب منه الإنكليز مرّتين، فتمنّع عنهم مرّة بركلات الترجيح (في مواجهة إيطاليا قبل أربع سنوات)، ومرّة لتفوّق خصومهم الاسبان عليهم مستوىً وأداءً وفاعلية.

إسبانيا التي هيمنت على المسابقة

قدّمت إسبانيا منذ مباراتها الأولى ضد كرواتيا القوية (فازت عليها بثلاثة أهداف نظيفة)، ثم ضد إيطاليا (تغّلبت عليها بهدف) أداءً كروّياً مميّزاً، يمزج بين فلسفة تملّك الكرة وتناقلها في مثلّثات متحرّكة، واللعب السريع نحو الأمام، عبر الجناحين اللذين يواكبهما الظهيران على الدوام لخلق التفوّق العددي، أو في محور الملعب عبر الدخول العامودي وتحرّك لاعب أو لاعبَين بين الخطوط. وظهر منذ البداية أن المنتخب الإسباني يستطيع تنويع أساليب لعبه، ويملك ذخيرة من اللاعبين البدلاء في خطّ الوسط قادرة على تعويض أي نقص أو تراجع أداء أو إصابة. وهو فوق ذلك مكوّن من ثلاثة أجيال كروية: لاعبو الخبرة والقيادة الذين تقدّموا قليلاً في السنّ وجميعهم، ما عدا موراتا، يلعبون في خط الدّفاع (كاربخال ولابورت وناتشو)، ولاعبو التوازن في الفريق، أو الجيل الوسيط الذي يضبط إيقاع خط الوسط (رودري وفابيان روز بخاصة)، ثم الجيل الجديد (ويليامز وبدري الذي أصيب في المباراة ضد ألمانيا، ولامين يمال، أصغر لاعب محترف في أوروبا وأفضل لاعب شاب في البطولة، الذي احتفل بعيد ميلاده السابع عشر عشية المباراة النهائية، وسجّل أحد أجمل الأهداف إن لم يكن أجملها في المباراة ضد فرنسا).

يضاف الى هؤلاء، مفاجأةُ المباريات الربع والنصف نهائية والنهائية، الذي دفعت به إصابة بدري الى الملعب، أي البديل دانييل أولمو، الذي كان له فضل كبير في التأهّل على حساب ألمانيا بعد تسجيله الهدف الأوّل، ثم على حساب فرنسا إذ لعب في المساحات الضيقة بين الوسط والدفاع الفرنسيين وسجّل وشكّل خطراً دائماً، وأعاد الكرّة في المباراة النهائية حيث كانت تحرّكاته في العمق مصدر إقلاق للدفاع الإنكليزي، وهي التي تسبّبت في تحرّر ويليامز من رقابة ووكر عند تسجيله الهدف الإسباني الأول، ثم في إطلاق الهجمة التي جاء منها الهدف الثاني.

ويفيد القول هنا إن البديلين الإسبانيين الآخرين، مرينو وأويارزابال، صنعا الفارق في النتيجة عند دخولهما. فالأول سجّل في مواجهة الألمان وأهّل فريقه الى النصف النهائي، والثاني سجّل في النهائي ومنح الكأس لإسبانيا. وهما، مع زوبيماندي الذي ملأ بكفاءة دور رودري (المتوّج بلقب أفضل لاعب) إثر خروجه مصاباً بعد شوط المباراة النهائية الأول، من الجيل الوسيط في المنتخب، مثل الظهير الأيسر كوكوريلا الذي قدّم مستوى جيّداً وكان من أفضل لاعبي النهائي.

وهذا كلّه يظهر نجاح المنتخب الاسباني في إيجاد توازن وانسجام كامل بين اللاعبين والخطوط، إن لجهة الخبرة أو السرعة أو التكامل في الأدوار واللعب في المساحات المختلفة وتنويع الهجمات واتجاهات اللعب، والأهم، النضج والتحضير الذهني والتكتيكي قبل كل مباراة.

فضد كرواتيا، اعتمد الاسبان السرعة واللعب بالعمق، وسجّلوا ثلاثية في الشوط الأول عبر موراتا وروز وكاربخال سمحت لهم بإدارة المباراة ببرودة دفاعية في الشوط الثاني. وضد إيطاليا، اتّكلوا على صلابة خط وسطهم ومرونته اندفاعاً هجومياً ثم ارتداداً دفاعياً. ولأن الإيطاليين يكثّفون الدفاع في محور منطقتهم، فقد كانت الهجمات عليهم تعتمد الجناحين أكثر، من خلال يمال وويليامز اللّذين أنهكا خصومهما، ودفعهم ويليامز بتمريراته العرضية بعد اختراقاته على الميسرة الى الخطأ والخسارة.

وضد ألبانيا المجتهدة، لعب الإسبان بالبدلاء وأمّنوا الفوز بالحدّ الأدنى بعد أن كانوا قد تأهّلوا الى الدور الثاني، الذي واجهوا فيه جورجيا وفازوا عليها بسهولة، ولَو بعد بداية غير مقنعة.

أما ضدّ الألمان، فتخلّى الاسبان عن أولوية تملّك الكرة (كان معدّلهم قبل هذه المباراة فوق الـ58 في المئة مع تمريرات تخطّت ال500 في المباراة الواحدة بمعدّلات نجاح تراوحت بين ال86 وال89 في المئة)، وركّزوا على اللعب بين الخطوط وفي المساحات الصغيرة، مع البقاء على الدوام على مسافة قريبة من خصومهم لمضايقتهم جسدياً قبل كل تمريرة. كما لعب الظهيران كوكوريلا وكاربخال أدواراً متوازنة بين الدفاع والهجوم، خاصة أنهما عادة هجوميّا النزعة، كي لا يتيحا للجناحين الألمانيين السريعين، موسيالا وساني، الكثير من الفرص للانطلاق خلفهما.

وضد فرنسا، تمكّن الإسبان من تعديل أسلوب لعبهم، خاصة بعد بداية جيدة للفرنسيين، تقدّموا فيها بهدف، وبدت سرعة دامبيلي ومبابي وكولو مواني مربكة للمدافعين الحُمر. فغيّر رودري بمساعدة أولمو وفابيان روز من إيقاع اللعب وتقدّموا في محور الملعب، وأجبرت تحرّكات أولمو تشوماني ورابيو على التراجع الدفاعي على نحوٍ غالباً ما افتقد التنسيق، فانقطعت بارتدادهما هذا الصلة بين الخطوط الفرنسية وبات المهاجمون الزرق من دون تمويلٍ حسنٍ بالكرات. ولم ينجح كانتي في تعويض الأمر وإعادة الصلة بالخطّ الهجومي، لاضطراره للدفاع في الميمنة بهدف ملء الفراغات التي فرضها تقدّم الظهير كوندي في محاولات للدفع الهجومي، خاصة أن لا قدرة للظهير الآخر هرنانديز على القيام كفاية بهكذا دور في ظلّ انشغاله (وفشله) في التعامل مع تهديد يمال على الميسرة. وعند خسارة الكرة، لم يُكثر الإسبان من الضغط على ناقلها، وترك معظمهم مسافةً (غير معهودة) مع اللاعبين الفرنسيين المقابلين لهم، لتجنّب الاحتكاك البدني وفوارق السرعة التي تمنح الفرنسيين أفضلية. وركّزوا في المقابل على دفاع المنطقة وتكثيف لاعبي الوسط أمام المدافعين، مع ترك يمال وأولمو في انطلاقاتهما عبئاً دائماً على منافسيهم.

أما ضد الإنكليز، فعاد الاسبان الى سياسة التركيز على تملّك الكرة للاحتفاظ الدائم بالمبادرة وتسريع التمريرات في الاتجاهات المختلفة وإرهاق الخصوم. ورغم سيطرتهم على الشوط الأول، إلا أنهم لم ينجحوا في التسجيل لانضباط الدفاع والوسط الانكليزيين، وتضييقهما المساحات أمامهم، ولسرعة ووكر وشاو في مواجهة ويليامز ويمال. لكن هذا تغيّر في الشوط الثاني، فأخرج الهدف الاسباني السريع والبديع الإنكليز من حذرهم، وتبدّل إيقاع المباراة ومالت أكثر فأكثر لصالح الإسبان حتى باغتهم الإنكليز في الدقيقة 73 بهدف من تسديدة بعيدة زاحفة تلتها انتفاضة دامت دقائق قادها بلينغهام المُغيّر تموضعه من يسار الملعب الى محوره. لكن فارق المستوى عاد وفرض نفسه، وسجّل الاسبان هدفهم الثاني وفازوا وأنهوا المباراة بنسبة تملّك كرة بلغت 66 في المئة، وبعدد تمريرات بلغ 545، مقابل 294 تمريرة للإنكليز (وبنسبة نجاح هي 89 في المئة، مقابل 77 في المئة للانكليز)، وبـ16 تسديدة على المرمى (مقابل 9 للإنكليز).

ويمكن القول ختاماً، إن أسبانيا بقيادة مدرّبها ديلا فوَنتي وفريق عمله المميّز والشجاع في خياراته ودمجه الأجيال (وهو الوافد من تدريب منتخب الشباب الذي فاز معه ببطولة أوروبا مرّتين والمنتخب الأولمبي الذي فاز بالميداليات الفضية)، تستعيد تألّقها، ولَو أنها لم تبلغ بعد المستوى الذي بلغه منتخبها بين العامين 2008 و2012 حين فاز بكأس العالم وببطولة أوروبا مرتين متتاليتين (أمر غير مسبوق). وهي قد لا تبلغه، رغم وجود لاعبين من مستوى يمال وويليامز وأولمو ورودري وبدري، لسببين. الأول أن لا مدافعين شبّان اليوم قادرين في العامين المقبلين على فرض أنفسهم في خط دفاع بدأ يتقدّم لاعبوه في السن، وأن لا حارس مرمى إسباني شاب أو مخضرم بمستوى إيكر كاسياس. والثاني، أن ظواهر كروية مثل يمال وويليامز، نادراً ما يتطوّر مستواها بشكل مضطرد بعد أن تُقدّم المستوى المدهش الذي تقدّمه الآن، وهي تفقد مع الوقت عنصر المباغتة بعد أن تُدرس سرعتها ونقاط قوتها وضعفها ويتدرّب المدافعون الخصوم على التعامل الأفضل معها. لكن هذا يبقى نظرياً بالطبع، فثمة استثناءات ولَو أنها قليلة، وقد يكون يمال مثلاً استثناءً جديداً يُضاف إليها.

في أي حال، اختتمت أوروبا بطولة كأسها الـ17 يوم الأحد في 14 تموز/يوليو 2024، وفاز الإسبان بكفاءة وجدارة، وباتوا على مسافة عامين فقط من كأس العالم 2026، الذي سيدخلونه على الأرجح كأبرز المرشّحين.

زياد ماجد

Commentaires