كأس العالم 2018: ثقافة تكتيكٍ وتفوّق أوروبي واستثناء فرنسي

نجحت روسيا في تنظيم كأس العالم 2018 رغم دعوات بعض المنظّمات الحقوقية الى مقاطعة البطولة. وأقيمت المباريات في وقتٍ كان الطيران الروسي يُغير فيه على درعا، جنوب سوريا، بعد أشهر على ارتكابه جرائم حربٍ في الغوطة الشرقية لدمشق، وفي ظلّ الاتهامات الموجّهة أوروبياً الى موسكو حول دورها في إسقاط الطائرة المدنية في أوكرانيا ومحاولتها اغتيال عميلٍ مزدوج في لندن. وكما في العام 1978، حين فشلت دعوات مقاطعة البطولة المقامة في الأرجنتين تضامناً مع المعتقلين السياسيين في سجون بيونس آيرس، بيّنت التجربة هذا الصيف أن انتظار مليارات الناس حول العالم للحدث الرياضي الأهم، والاستثمار الاقتصادي والإعلامي فيه يجعلان كلّ جدل حول مشروعية تنظيمه صعباً.

هكذا، افتتح فلاديمير بوتين البطولة واختتمها، وتخطّى الاتحاد الدولي لكرة القدم أزمته الناجمة عن فضائح الفساد فيه، وتُوجت فرنسا بطلةً لمسابقة كانت فيها استثناءً على أكثر من صعيد.

في تسيّد التكتيك والانضباط

كرّست كأس العام الأخيرة ما بات سائداً كروياً منذ العام 2006: تقدّم الحسابات التنظيمية على أرض الملعب، وتراجع الجماليّات وقدرة اللاعبين على الارتجال حتى ضمن ضوابط خطط اللعب. فثقافة كرة اليوم التي فرضتها البطولات الأوروبية الكبرى، حيث يلعب معظم لاعبي المنتخبات الوطنية وحيث يعمل معظم المدرّبين، هي ثقافة التركيز على حسن الانتشار في مساحات الملعب والالتزام بالتعليمات التكتيكية للمدّربين، والبحث في الكثير من الأحيان عن استيعاب الخصم ومنعه من تطوير أدائه عوَض السعي لتملّك الكرة وفرض أسلوب لعب مغاير أو ندّية في بناء الهجمات. ولأننا في مسابقة يخرج فيها الخاسر، تصبح هذه الثقافة "سنّة" المنتخبات، وقد ظهرت ملامحها في المباريات التي تموضع خلالها اللاعبون على نحو يفرض على الخصم لعباً عرضياً تصعب معه الهجمات في العمق، ويتحوّل الأداء رتيباً تتماثل التمريرات الطويلة فيه نحو منطقة الجزاء وتنعدم خطورتها. ولم يحدّ من الرتابة المذكورة سوى ارتكاب مدافعين لأخطاء في الدقائق الأخيرة للعديد من المباريات، نتيجة التعب وتراجع التركيز، بما سمح للمهاجمين ذوي الخبرة وسرعة البديهة بالتسجيل وحسم النتائج. 

بطولتا إنكلترا وإسبانيا تحتكران معظم النجوم

تسيطر بطولات إنكلترا وإسبانيا إيطاليا وألمانيا على كرة القدم الأوروبية والعالمية وأسواق لاعبيها وانتقالاتهم. فمعظم لاعبي المنتخبات الوطنية من أوروبا وأميركا اللاتينية يلعبون فيها، وإذا أضفنا بطولة فرنسا يمكننا أيضاً تعميم الحالة إياها على لاعبي المنتخبات الأفريقية. على أن بطولتي إنكلترا وإسبانيا استقطبتا في العقد الماضي الحجم الأكبر من الاستثمارات المالية والحيّز الأكبر من النقل التلفزيوني، ممّا مكّن أندية مثل مانشستر سيتي وتشيلسي ومعهما مانشستر يونايتد وليفربول وأرسنال وتوتنهام من جهة، وريال مدريد وبرشلونة وأتلتيكو مدريد وفالنسيا وأشبيلية من جهة ثانية، من استقطاب نجوم العالم اليوم. فإذا ما استثنينا عدداً يقلّ عن أصابع اليدين من هؤلاء النجوم يلعب في ألمانيا وإيطاليا، وإذا ما استثنينا نيمار ومبابي وكافاني الذين يلعبون في باريس سان جرمان الفرنسي، نقع على كثافة نجوم عالميّين غير مسبوقة في النوادي الإنكليزية والاسبانية. وهذا جعل الدوري الإنكليزي الأكثر تنافسية في أوروبا، وجعل النوادي الإسبانية الأقوى بحيث تسيطر منذ سنوات على البطولتين القاريّتين للنوادي. وفي وقت لم يستفد منتخب إنكلترا من الأمر قبل العام 2018، استفادت منه إسبانيا كثيراً إذ فازت ببطولتي أوروبا العامين 2008 ثم 2012 وفازت بينهما بكأس العالم العام 2010 في مرحلة جيل ذهبي جمع المهارات والخبرة والقدرة الدائمة على التهديف. على أن الأمور انقلبت هذه المرة، فخرجت إسبانيا من الدور الثاني بخسارة أمام روسيا كانت نموذجية في تظهير معنى "قتل اللعب" للوصول الى ركلات الترجيح، وتقدّمت إنكلترا بأداء متوسّط نحو النصف النهائي وحلّت رابعة. وقد تكون إسبانيا دفعت ثمن إنهاك لاعبيها (إذ تطول مواسم كثرة منهم بسبب تفوّقهم في البطولات الأوروبية)، وثمن الخلاف بين اتحادها ونادي ريال مدريد الذي تسبّب بالإطاحة بمدرّبها الوطني قبل يومين من انطلاق مسيرتها في البطولة العالمية.

في موازاة ذلك، تكفي نظرة الى لاعبي بلجيكا الثالثة وكرواتيا الثانية وفرنسا المتوّجة بطلة، للوقوف على مدى احتكار البطولتين الإنكليزية والاسبانية للنجوم. وهذا سيجعلهما بلا شك تستقطبان المزيد من الاستثمارات والتغطية، بما يُعزّز تفوّقهما، ومعه استمرار تفوّق الكرة الأوروبية.

التحكيم الآلي وخروج الكبار

شكّل التحكيم الآلي علامة فارقة في كأس العالم هذا الصيف، وانتهت معه احتمالات الخطأ في تقدير حالات التسلّل أو الركلات الركنية أو تسجيل الأهداف (في ما خصّ خطّ المرمى). إلا أنه لم يحلّ مشكلة ضربات الجزاء، التي سيبقى للتحكيم البشري الحق في تقديرها والاختلاف حول تأويل ملابساتها، إن في ما يخصّ الخشونة أو لمس اليد. ذلك أن الإعادات إذ تبطّئ حركة اللاعبين وتخرجها بالتالي عن سياقها لا تكفي لحسم قرار. كما أن تقييم مدى قدرة مهاجم على الاستفادة من الكرة إن لم يقع خطأ عليه تبقى مسألة قد يختلف عليها الحكّام كما المراقبون. ولمسة اليد سيظّل بالإمكان اعتبارها أحياناً عفوية أو نتيجة حركة لحماية وجهٍ من تسديدة مفاجئة. وهذا يعني أن الجدل حول ركلات الجزاء سيستمرّ، ولو أنه سيتراجع في الحالات التي يظهر أن لا لُبس فيها.

والى جانب التحكيم، كانت ظاهرة خروج المنتخبات العريقة بارزة في هذه البطولة. فحاملة اللقب ألمانيا خرجت من الدور الأول بعد أداء باهت أظهر نهاية حقبة وجيل في تاريخها الكروي، تماماً كما حصل مع فرنسا العام 2002 ومع إيطاليا العام 2010 ومع إسبانيا العام 2014. وغريمة ألمانيا في نهائي الكأس الماضية، الأرجنتين، خرجت من الدور الثاني أمام فرنسا بعد أن أهّلها ليونيل ميسي بصعوبة إليه. وبدا فريقها بطيئاً شديد الاتّكال على نجمه الذي نجح الفرنسيّون في تحييده عبر قطع التمريرات إليه بدل الاكتفاء بمراقبته، فيما كان لتراجع لياقة الارجنتينيين وتقدّم عدد من لاعبيهم بالسن أن سهّلا مهمة الهجوم الفرنسي وقدرة نجمه مبابي على الاختراق في العمق والتسجيل تكراراً في واحدة من أكثر مباريات البطولة إثارة وتهديفاً.

بطل أوروبا من جهته، منتخب البرتغال، قدّم عروضاً متوسّطة، واتّكل على نجمه كريستيانو رونالدو الذي أبدع أمام إسبانيا ثم تراجع في المباراة مع الاوروغواي فخرج البرتغاليون من الدور الثاني. أما منتخب البرازيل فلم يتخطّ الربع نهائي هذه المرّة، بعد عروض متفاوتة المستوى قدّمها في الدور الأول ومباراة جميلة خاضها ضد المكسيك في الدور الثاني، وأداء قوي في النصف ساعة الأخيرة فقط من المباراة التي خسرها أمام بلجيكا فأطاحت به.

في معنى الاستثناء الفرنسي

برزت فرنسا هذا العام كاستثناءٍ لسبَبين: سبب رياضي، وآخر اجتماعي-ثقافي. في الجانب الرياضي، قدّم الفرنسيّون عروضاً متوسّطة في جميع مبارياتهم، ما عدا المباراة ضد الارجنتين. إلّا أنهم جسّدوا في مختلف المباريات معنى "الواقعية الكروية" الطاغية راهناً، لجهة القدرة على التسجيل المباغت نتيجة قوّة أو خبرة بعض لاعبيهم، ثم الانكفاء للدفاع الجماعي عن النتيجة وحسن اقتصاد الجهد والضغط على الخصم في وسط الملعب لمنعه من تهديد المرمى. وبرز الأمر حاسماً لصالحهم في النصف نهائي كما في النهائي أمام بلجيكا وكرواتيا اللتين قدّمتا أفضل عروض البطولة. وإذا كان الاكتفاء بإدارة المباريات من دون أداء جماليّ أو سيطرة هجومية يُعاب على المنتخب المتوّج باللقب، فإنه بالمقابل أظهر فاعلية كبيرة في المباريات الحاسمة وبرز لاعبوه كانتي وأومتيتي وفاران وغريزمان وبوغبا ومبابي كنجوم للمسابقة. والأخير صار بعد البرازيلي بيليه، ثاني لاعب في تاريخ كرة القدم يسجّل هدفاً في مباراة نهائية وهو دون العشرين من العمر، ولا شكّ أنه سيتطوّر كثيراً في المقبل من الأيام ليصبح واحداً من أفضل اللاعبين في العالم.

على أن سبب الاستثناء الرياضي الفرنسي لا يرتبط حصراً بالنتائج الجيدة وبالقدرة على تحصيلها، بل أيضاً بتكوين اللاعبين وصقل مهاراتهم. فبرامج الإعداد في فرنسا وكلّياتها صارت الأنجح في العالم، وجميع نجوم المنتخب الفرنسي قبل انتقالهم الى الأندية الإنكليزية والإسبانية الكبرى حيث يلعبون (باستثناء مبابي) تدرّبوا في الكلّيات هذه وتطوّرت مهاراتهم فيها وبرزوا في أندية فرنسية قبل أن يكتشفهم الكشّافة الإنكليز والإسبان فيفرضوا أنفسهم ضمن أنديتهم عالية المستوى حيث يتنافس كثر على كلّ مركز. 

الاستثناء الفرنسي الثاني، الاجتماعي-الثقافي، ارتبط بكون المنتخب الأزرق الأكثر "تلوّناً" بين جميع المنتخبات، نصف لاعبيه على الأقل سود البشرة، أصول أهلهم أفريقية. وقد أدّى الأمر الى نقاشات صاخبة حول العالم، جاء معظمها عنصري يشكّك في "فرنسية" اللاعبين السود و"أوروبيّتهم" (في الصحافة الإيطالية بخاصة وفي التصريحات السابقة لمباراتهم مع الكروات "البيض")، أو يتفاخر في إعلاء هويّة أفريقية للاعبين ليردّ على العنصريّين، واقعاً بذلك في فخّ القبول بمشروطية البياض والصفاء ليكون الفرد فرنسياً أو أوروبياً.

وإذا كان الهلع العنصري من كلّ نجاح "ملوّن" متوقّعاً في ظلّ تصاعد النزعات اليمينية المتطرّفة في أوروبا الشرقية والوسطى كما في إيطاليا وفي فرنسا نفسها، فإن الواقعين في فخّ التركيز على الهويّات والأصول – ولو من باب الردّ على العنصرية - يتناسون أن المشترك الثقافي والعاطفي للاّعبين يتفوّق على ما عداه من عناصر خاصة بكل فرد منهم، وأنهم جميعاً وبمعزل عن أصول أهاليهم عاشوا واكتشفوا كرة القدم في فرنسا وتكوّنوا كلاعبين فيها وبفضل بنيتها التحتية الرياضية، وبدا أداؤهم شديد الوفاء لذلك. والأهم، أن الردّ على العنصرية هو في البحث في معنى الهويّات المركّبة والمتعدّدة وليس في العودة الى أصول الأفراد والجماعات وهويّات أهلهم الأولّية.

في أي حال، لم يأبه لاعبو المنتخب الفرنسي كثيراً بالنقاش الدائر من حولهم، وركّزوا على المستطيل الأخضر وتحوّلت فرنسا مع جيلهم هذا الى واحدة من أمم كرة القدم، بعد البرازيل وإيطاليا وألمانيا، والى جانب الأرجنتين وإسبانيا وإنكلترا، ولم يعد جيل زين الدين زيدان والعام 1998 الجيل المتوّج الوحيد.

كل بطولة وكرة القدم بخير.

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق القدس العربي، أغسطس 2018

Commentaires