ما جدّده يوهان كرويف ثم بيب غوارديولا في أساليب اللعب وأدوار اللاعبين

يبرز يوهان كرويف وبيب غوارديولا كإثنين من الأكثر تأثيراً في فلسفة كرة القدم وخططها وأدوار اللاعبين فيها في العقود الثلاثة الماضية. الأول درّب الثاني لاعباً وكلّفه بمهامٍ جديدة في الملعب وجعله نقطة توازن فريقه برشلونه في مطلع التسعينات. والثاني تبنّى مبادئ الأوّل وأضاف إليها مفاهيم جديدة وطبّقها لاحقاً في برشلونة نفسه ثم في بايرن ميونخ ومانشستر سيتي.

كرويف واللعب بين الخطوط

بعد مسيرة حافلة في ناديه أجاكس أمستردام حيث تكوّنت ثقافته التكتيكية وحيث قاد كلاعبٍ ثورة "الفوتبول توتال" (الكرة الشاملة)  التي صمّمها مدرّبه رينوس ميشلز أواخر الستينات فمكّنته من الفوز بثلاث بطولات أوروبية متتالية أوائل السبعينات وبتقديم كرة القدم الأجمل عالمياً في الفترة إياها (وصلت هولندا الى نهائي كأسي العالم 1974 و1978)، انتقل كرويف الى برشلونة لاعباً مميّزاً، ثم تنقّل بين نوادٍ أميركية وإسبانية قبل أن يبدأ مسيرته التدريبة في فريقه الأول أجاكس، ليتركه بعد ثلاث سنوات فيستلم تدريب برشلونة ابتداءً من العام 1988.

هناك، بلوَر كرويف موسماً بعد آخر، وحتى العام 1994، فلسفته الكروية المستندة الى الكرة الشاملة والمضيفة إليها تفاصيل تحوّلت مع الوقت الى قواعد للكرة الحديثة والى أساليب ستحاول فرق كثيرة اعتمادها من بعده.

فبالإضافة الى استخدام مساحات الملعب كلّها وتكوين اللاعبين ليستطيعوا اللعب في أكثر من مركز، وبالإضافة الى تكليف المهاجمين بمهام دفاعية فور فقدان الكرة والمدافعين بمهام هجومية عند استردادِها لمضاعفة الضغط على الخصوم، وهذه من أسس الكرة الشاملة، عمد كرويف الى إضافة أمرين. الأول، تدريب اللاعبين على الجري أقلّ وتناقل الكرة أكثر. وهذا يتطلّب تمارين على حسن التمركز والحركة الدائمة ضمن مساحات محدّدة لا تتخطّى المسافة فيها الـ15 عشر متراً بين الخطوط، مع تحسين دقّة التمرير لدى معظم اللاعبين، وليس فقط - كما كانت الحال في السابق - لدى صانع أو صانعَي اللعب في الفريق. والأمر الثاني، التمرين الدائم على التمريرة الأسهل واللعب الأبسط وفق مبدأ الليونة: أي تقليص مساحة لعب الخصم لحظة التموضع الدفاعي من خلال الضغط عالياً عليه عبر المهاجمين ولاعبي الوسط، وتوسيع مساحة اللعب لدى امتلاك الكرة عبر تناقلها وتمكين المتقدّم بها من العثور طيلة الوقت على لاعبَين متحرّكين على الأقل يمكن التمرير لأحدهما. على هذه الأسس، بنى كرويف فريقاً وفق مبدأ 3-4-3، وفي أحيان قليلة 3-5-2، مع تركيز على ثلاثة لاعبين بوصفهم عاموداً فقرياً يتمركز باقي اللاعبين وفق تمركزهم. كومان (مدرّب برشلونة الحالي) في خطّ الدفاع، غوارديولا (اللاعب النحيف ذو الـ17 عاماً) أمامه كحامٍ لخطّ الظهر ومسؤول عن نقل الفريق في تمريرة واحدة من الدفاع الى الهجوم، وباكيرو الذي ابتكر له كرويف مركزاً كلاعب وسط متقدّم يُبقي ظهره خلال بناء الهجمات لمرمى الخصم، بما يُتيح له رؤية الملعب بأكمله وقياس المسافات وسرعة الزملاء والخصوم وتمرير الكرات نحو الجناحين وفق التقدير الأنسب ثم الاستدارة والاندفاع في محور الملعب لمواكبة الهجمة داخل منطقة الجزاء.

كما عمد كرويف الى تعديل وظيفة حارس المرمى، فكان في الحصص التدريبية يمرّنه على التمرير الدقيق والتقدّم داخل منطقته وخارجها واستلام الكرة من مدافعيه إن انعدمت شروط تمريرهم المفيد نحو الأمام والتحوّل بنفسه الى ممرّر نحو الهجوم، بما يجعل الفريق من 11 لاعباً كما كان يردّد، وليس من حارس و10 لاعبين، و"في ذلك ما يخلق تفوّقاً عددياً على الخصم". 

ومع ضمّ صانع ألعابٍ قال كرويف إنه لو وُلد في حي عشوائي في البرازيل وامتلك غريزة اللعب بهدف الخروج من الفقر و"الغيتو" لكان أفضل لاعب في التاريخ، هو الدانماركي لاودروب، ثم عقب التعاقد مع البلغاري ستويشكوف ومن بعده البرازيلي روماريو، اكتمل فريق الكرة الشاملة بنسخته الثورية المنقّحة، والتَهم كرويف خصومه خلال ثلاث سنوات في مباريات مدهشة، أنهت التفوّق المدريدي في إسبانيا وانتزعت العديد من الألقاب الوطنية والقاريّة.

لكن لكلّ تفوّق نهاية، فكان أن وقعت التراجيديا البرشلونية في العام 1994، حين تمكّن كابيلّو مدرب الميلان من تعطيل فلسفة كرويف وفرض فلسفة مضادة قائمة على ضرب العامود الفقري للخصم وإلزام لاعبيه على مجابهات فردية منهِكة وفرض المراقبة اللصيقة (والخشنة) على من يجيد اللعب بين الخطوط لمنعه من التحرّك. هكذا عطّل الثنائي الميلاني دوسايي - ألبرتيني غوارديولا وكومان ومنعاهما من تنفيذ النقلة الأولى للكرة التي تصنع كلّ الفارق، وضغط الميلانيون على خطّ الوسط البرشلوني (عبر دونادوني وبوبان) حارمين الهجوم من تلقي التمريرات، واستفادوا في المقابل من هجماتهم المضادة ومن براعة سافيسفيتش وماسارو لتسجيل الأهداف التي أطاحت ببرشلونة في نهائي البطولة الأوروبية العام 1994، وأنهت بالفعل مسيرة كرويف التدريبية، إذ لم يُفلح من بعدها رغم بقائه لعامين إضافيين في النادي الكاتالوني في إعادة بناء فريق متكامل بلاعبين يعوّضون من قرّروا المغادرة.

غوارديولا وتجديد إرث معلّمه

انتظرت كرة القدم لاعبَ كرويف المفضّل بيب غوارديولا ليُعيد إحياء فلسفة مدرّبه وتطويرها شيئاً فشيئاً ابتداءً من العام 2008، وليعيد برشلونة من جديد الى قمّة الكرة الأوروبية، مستنداً هذه المرة الى ثلاثي في الوسط والهجوم قلّ نظيره، هو شافي - إنييستا - ميسّي، ومن حولهم لاعبين متحرّكين يجيدون تبديل المراكز (مثل بدرو ودافيد فيلا) ومدافعين صلبين وهجوميين بالتمريرات والكرات الهوائية (مثل آلفيس وبويول وبيكيه).

على أن اقتباس غوارديولا لكرويف ظهر بشكل خاص في الوظائف التي أناطها بلاعبَين. حارس المرمى فالديس، ولاعب الوسط المدافع بوسكيتس. الأول أُلزِم بالتدرّب على التمرير والتسديد والمساهمة في بناء الهجمات، والثاني، مُنح الدور الذي كان غوارديولا نفسه يؤدّيه بإدارة كرويف: حماية منطقة الجزاء أمام قلبَي الدفاع، وأداء وظيفة الارتكاز لإطلاق الهجمات مع حرّية تقدير مساحات التقدم والتراجع وفق الحدس وقراءة المسافات وسرعة الخصوم.

وحقّق غوارديولا مع برشلونة خلال أربع سنوات أرقاماً قياسية في الانتصارات وفي حصد البطولات الى أن غادره في إجازة قبل أن يخوض تجربة جديدة في قيادة بايرن ميونخ، الفريق الكبير والعريق الذي درّبه بين العامين 2013 و2016. ولا شكّ أن تدريب لاعبين من ثقافة كروية مختلفة وتعديل فلسفة لعبهم أو وضع تصوّر يحافظ لهم على بعض تقاليدهم ويزوّجها بعناصر جديدة يتطلّب جرأة وقيادة فريدة. وهذا ما نجح في تحقيقه غوارديولا، ولَو أنه لم يوصل فريقه الجديد الى القمّة الأوروبية كما كان يمنّي نفسه. إلا أنه أضاف الى الفاعلية البافارية المعهودة ودقة التمريرات الطويلة والتركيز حتى الدقيقة الأخيرة قدرة على تنويع أساليب اللعب وتحسين الانتشار المفضي الى استعادة سريعة للكرة بعد خسارتها. كما غامر في بعض المباريات لكسر التكتّلات الدفاعية الخصمة بالانتقال من تشكيلة الـ4-4-2 الى الـ3-2-5، على نحو غير مسبوق على هذا المستوى منذ الخمسينات. وعمد غوارديولا الى  أحداث تبديلات في مراكز بعض اللاعبين (فيليب لام وطوني كروس مثالَين) وفي أساليب لعبهم (بواتِنغ) مساعداً إياهم على تطوير كفاءاتهم وتوظيفها لصالح المجموعة وضمن المراكز الجديدة التي احتلّوها. كما أنه تعاقد أو أبرز خلال مروره البافاري المتوّج بكل الألقاب الوطنية الممكنة، لاعبين ممن سيتحوّلون لسنوات الى أبرز أعمدة الفريق، من بينهم كيميش وكومان.

وفي مانشستر سيتي، تمكّن غوارديلا بعد العام 2016 من تشكيل فريق إستثنائي بمعنيَين. الأول، تماسك الخطوط واختلاف شخصيات اللاعبين وتنوّع أساليب لعبهم ونجاحهم رغم ذلك في الانسجام  والسيطرة على المباريات وتحقيق رقم قياسي في عدد الانتصارات في الموسم الواحد. والثاني، تجسيده الناجح لفكرة أن الانتشار في الملعب خلال خسارة الكرة لا يقلّ أهمية عن الانتشار خلال تملّكها، لأن فيه مكمن نجاح الانتقال اللاحق المباغت الى الهجوم والتهديف. وهذا يتطلّب تنسيقاً وتفاهماً دقيقاً بين اللاعبين، شبّهه نقّاد الكرة بالتخاطر أو الـ"تيلي-باتي" إذ على اللاعبين أن يحافظوا على الدوام على مسافات متوازنة أفقياً وعامودياً في ما بينهم تقدّماً أو تراجعاً، مع ترك هوامش للارتجال أو للغريزة تمكّن بعضهم من أخذ المبادرات المنفردة للتسديد أو للاختراق أو لتقرير اتجّاهات اللعب.

والأهمّ ربما، أن غوارديولا أعاد في مانشستر سيتي اللعب بتشكيلات تتبدّل محافِظةً على نجاحها وعلى قدرتها التهديفية، حتى حين لعب لأشهر طويلة من دون رأس حربة أو هدّاف (من طينة إغويرو). ويُسجّل له هذا الموسم أنه أحيا ثلاثي صلب وخطير قوامه دو بروين وغوندوغان وفودن، يواكبهم دورياً رياض محرز، بانياً عبر قدامى وجُدد عاموداً فقرياً للفريق نقله الى المركز الأول في الدوري والى نصف نهائي البطولة الأوروبية لأول مرّة في تاريخه.

وليس في ما يقوله خبراء التدريب في نشراتهم ودروسهم التطبيقية مبالغة حين يشيرون الى دور غوارديولا في فوز إسبانيا بكأس العالم 2010 وكأس أوروبا 2012 نتيجة المساهمة الأساسية للاعبيه في برشلونة في هذين التتويجَين (بقيادة ديل بوسكي)، وفي فوز ألمانيا بكأس العالم 2014 إذ شكّل لاعبوه في بايرن ميونخ عماد المنتخب وطبّقوا "مثلّثاته" الهجومية، واعتمد مدرّبهم الوطني لوُوْ نفس الوظائف الجديدة (رغم أنها لم تحظ بإجماع الخبراء الألمان) التي أوكلها غوارديولا لفيليب لام وكروس في الوسط ولبواتنغ في الدفاع وفي التمرير العرضي الطويل. كما أن مدرّب إنكلترا سَوثغايت الذي أوصلها الى نصف نهائي كأس العالم في العام 2018 لأول مرّة منذ العام 1990 لا يُخفي تأثّره بغوارديولا ويقول عنه إنه حسّن مستوى الكرة الانكليزية نتيجة سعي المدرّبين في الفرق الكبرى الى تقليده أو الى التفكير الدائم بسبل مواجهته...

هكذا، يمكن الزعم إن كرويف وغوارديولا تركا ويتركان بصماتهما على ثقافة كرة القدم وعلى أفضل ما يمكن أن تقدّمه اللعبة من أساليب تجمع الفعالية بجودة الأداء بالجرأة والخروج عن المألوف.

ورغم بعض الخسارات التي مُنيَ بها كلٌ منهما وعجز الثاني عن الفوز بالبطولة الأوروبية مع بايرن ثم مع مانشستر سيتي (حتى الآن على الأقل)، إلا أنهما فرضا نفسيْهما نجمَي التدريب في الثلاثين سنة الماضية.

زياد ماجد

Commentaires