عمّا يمثّله كريم بنزيما الذي نفتقده في المونديال

ثمّة ما يُغري في الكتابة عن كريم بنزيما وما يمثّل في سيرته الكروية وفي التعامل الإعلامي والسياسي الفرنسي معه، وهو الذي أصيب مؤخّراً واضطرّ لمغادرة قطر لنخسر رؤيته مع منتخب بلاده في كأس العالم 2022.

فالمهاجم الفذّ الذي نال هذا العام جائزة الكرة الذهبية، كأفضل لاعب في أوروبا، بعد أن أحرز مع ريال مدريد بطولة إسبانيا وكأس "الشامبيونز ليغ" القارية وتُوّج هدّافاً للبطولتين وكان أبرز صانعي الانتصارات فيهما، وأحرز مع منتخب فرنسا كأس رابطة الأمم الأوروبية العام 2021، ليس موضع إجماع أو ثقة في فرنسا لأسباب يصعب الاعتقاد بأنها مرتبطة حصراً بأخطاء مسلكية ارتكبها منذ أعوام.

من ظلّ كريستيانو رونالدو الى النجم الأول

وبنزيما نفسه لم يتحوّل الى النجومية الساطعة أصلاً والى قيادة مدريد والإجماع عليه هناك إلا بعد رحيل كريستيانو رونالدو عن نادي العاصمة الإسبانية قبل أربع سنوات. فهو كان في عهدهما المشترك "المساعد" له، أو اللاعب الذي يلعب في ظلّه وفي خدمة بريقه، موظّفاً سرعة بديهته وفعاليّة لمساته وتمريراته البينية وعمق تحرّكاته الهجومية لسحب المدافعين نحوه أو فرض إعادة تموضع عليهم تحرّر النجم البرتغالي من الرقابة وتتيح له التمركز حيث يمكنه تلقّي الكرة ليهدّف. وهو بلا شكّ تعلّم كثيراً منه.

وقد استمرّ حال اللاعبَين على هذا النحو لفترة طويلة، شهدت تفاوتاً في مستوى بنزيما وتألّقاً دائماً أو شبه دائم لكريستيانو. لكن رحيل الأخير عن مدريد وفشل البلجيكي إدين آزار في الحلول مكانه وفي لعب الدور المعَوَّل عليه، جعل من بنزيما يصعد تدريجياً ليصبح نجم الفريق بلا منازع. ساعده في صعوده ثلاثي خطّ وسط إستثنائي القدرة على السيطرة على منتصف الملعب والتعامل مع إيقاع المباريات، كاسيميرو وكروس ومودريش، وثلاثة لاعبين شبّان، يتحرّكون في الهجوم ويناورون من حوله، فالفيردي ورودريغو وفينيسوس. وتحوّل تفاهمه العام الماضي مع فينيسوس الى جعلهما ثنائياً هجومياً من الأقوى في العالم، فيه سرعة البرازيلي الخارقة المتخطّية المدافعين، وفيه خبرة بنزيما وقدرته على صناعة الأهداف وعلى التهديف بالرأس كما بالقدمين ومن مسافات وزوايا مختلفة.

كما ساعده على هذا الصعود مدرّبان وثقا به تماماً هما زيدان وأنشيلوتي اللذان منحاه الدعم اللازم ومكّناه من التصرّف بحرّية بما يمكّنه من إظهار كلّ قدراته وفنّياته في مرحلة عطائه الكروي الأكمل.

ولعلّ أهداف بنزيما العشرة في البطولة الأوروبية خلال حملة مدريد الأخيرة المظفّرة في خمس مباريات حاسمة (في الإياب ضد باريس سان جرمان وفي الذهاب والإياب ضد تشلسي كما في الذهاب والإياب ضد مانشستر سيتي)، وتسجيله الأهداف هذه في أوقات بدا فيها ما يحدث في الملعب أقرب الى المعجزات، تعبّر عن المستوى الذي وصل إليه اللاعب لياقةً بدنية، وتركيزاً ذهنياً ونضجاً تقنيّاً وقيادةً لزملائه وحسن قراءة لمجريات المباريات ولأحوال الخصوم فيها. وأظهر تأقلمه السريع مع منتخب فرنسا، الذي عاد إليه بعد إبعادٍ لمبرّرات غير كروية، قدرته على فرض نفسه وأسلوب لعبه على مجموعة كانت منتظمة تكتيكياً من دونه في مرحلة طويلة سابقة. وأثبت تسجيلُه أهدافاً رائعة في شباك بلجيكا وإسبانيا وسويسرا والدانمارك والبرتغال في كأس رابطة الأمم (التي فاز بها المنتخب الفرنسي) وكأس أوروبا (التي خرج من دورها الثاني)، أن مزاعم البعض حول عودته تلك التي أضعفت المنتخب لأنها عدّلت من أدوار اللاعبين ومساحات لعبهم هي مزاعم زائفة، وأن تراجع مستوى بعضهم (غريزمان وبوغبا بالأخص) وإهدار مبابي لضربة جزاء هما سبب خروج المنتخب من الكأس القارية. 

بنزيما والهويّة الفرنسية المركّبة

لكنّ نجاح كريم بنزيما في ريال مدريد وتسجيله الأهداف لفرنسا بعد عودته ثم فوزه بالحذاء الذهبي وقوله إنه "حذاء الشعب" لم يُعجب أو يجذب جزءاً من الجمهور الفرنسي والمعلّقين الرياضيين وعدداً من السياسيّين إليه.

وهذا يُحيلنا الى سيرة بنزيما وصورته المركّبة وما يمثّله اجتماعياً وثقافياً في فرنسا اليوم، حيث بات اليمين المتطرّف والخطاب العنصري السافر أو المبطّن جزءاً "طبيعياً" من المشهدين الإعلامي والسياسي.

فاللاعب أتى، كما معظم اللاعبين الفرنسيين ذوي الأصول الأفريقية والشمال أفريقية، من أحياء شعبية في ضواحي المدن حيث يبحث كشّافة كرويّون عن المواهب الخام لجذبها الى أكاديميات رياضية ترعاها وتدرّبها قبل "تسويقها" ومساعدتها على توقيع عقود لتقاضي العمولات وتقاسم الأرباح معها. ويمكن القول إن بنزيما كان محظوظاً إذ جرى ضمّه باكراً الى إحدى أفضل الأكاديميات الفرنسية، تلك التي يملكها ويشرف عليها نادي ليون، ممّا أتاح له الفرصة للتوقيع مع النادي نفسه واللعب لفريقه الأول احتياطياً ثم أساسياً فنجماً هدّافاً، في حقبة صار فيها ليون بطل فرنسا والمشارك الدائم في البطولات الأوروبية.

وفي العام 2009، وقّع بنزيما على كشوف ريال مدريد حيث انتقل شأنه الى مستوى آخر هو المستوى العالمي، بقيادة مورينيو ثم أنشيلوتي وصولاً الى زيدان فأنشيلوتي من جديد.

لكن بنزيما، وعلى العكس من العديد من اللاعبين المحترفين في الأندية الكبرى، لم يقطع مع جذوره الاجتماعية المتواضعة ولا حتى مع أمكنة إقامته السابقة لنجوميّته. فظلّ الرجل على وفاء لرفاق طفولته وجلّهم مثله من أصول مهاجرة، تماماً كما لم يشأ أهله الطلاق مع بيئتهم الشعبية والانتقال للعيش بعيداً عنها.

يضاف الى ذلك أن بنزيما أظهر خلال صعوده ثم مع نجاحه وألمعيّته الرياضية تصالحاً بين صورة النجم المحترف كما يُروَّج لها في مخيّلة إعلانية وتجارية فرنسية و"غربية" عامة، وبين هويّته كمسلمٍ فخور بدينه يصوم رمضان ويشارك على تويتر وإنستغرام وغيرهما من المنصّات الاجتماعية في نشر صورِه ممارساً طقوس عبادة، أو حتى في اعتماد هاشتاغ "الحمد لله" كملازم لإعلان إنجازاته وأهدافه ومشاريعه وطموحه. وفي هذا ما استفزّ ويستفزّ الأوساط العنصرية الفرنسية أشدّ استفزاز، خاصة وأن الأمر صادرٌ بهدوء وثقة عن رياضي هو من أكثر الفرنسيين شهرةً كونية.

وأدّى الأمر (بالطبع) الى انقسام مبكر حوله من قبل جمهور كرة القدم الفرنسية، والى حملات كراهية ضدّه، فاقمها تدخّله وسيطاً في عملية ابتزاز مارسها صديق قديم له ضد أحد اللاعبين من زملائه في المنتخب الفرنسي، فالبْوِينا، الذي خاض وإياه كأس العالم العام 2014. واستُبعِد على إثر الدعوى المرفوعة من فالبوينا إياه (حتى قبل إدانته) عن التشكيلة الفرنسية بتحريض من مسؤولين سياسيّين (بينهم رئيس الحكومة وقتها مانويل فالس وعدد من كوادر اليمين) ومن نافذين في الاتحاد الفرنسي لكرة القدم (بينهم رئيسه). ولم يخض بنزيما بالتالي لا كأس أوروبا العام 2016 ولا كأس العالم العام 2018 مع منتخب بلاده.

لكنّ تألّقه الاستثنائي مع ريال مدريد في الموسمين الكرويّين الأخيرين فرض على المدرّب الفرنسي ديشان استدعاءه من جديد. فشارك في عدد من المباريات وبرع فيها قبل أن تلاحقه الإصابات في مرحلة التحضيرات لكأس العالم 2022 وتُبعده عن المنتخب (وعن ناديه الإسباني). ورغم تطمينات سبقت انطلاق الكأس في قطر حول وضعه وحظوظ مشاركته، إلّا أنه عانى من آلام يبدو أنها منعته من الاستمرار، فرحل عن الدوحة.

هكذا، أقفل العام على غياب حامل الكرة الذهبية، الفرنسي المتحدّر من أصل جزائري وابن الأحياء الشعبية، عن المسابقة الأهمّ التي يُشاهدها مليارات البشر. وليس واضحاً بعد متى سيستأنف اللعب مع ريال مدريد ومتى سيستعيد مستواه ولياقته البدنية، ولا إن كان سيبقى مع المنتخب الفرنسي في المرحلة المقبلة التي ستشهد تصفيات كأس أوروبا 2024 وعدداً من الاستحقاقات الكروية الأخرى المهمة.

وهكذا أيضاً، انطوت صفحة من صفحات مسيرة كريم بنزيما الكروية وعلاقته بهويّته وبالصورة المركّبة التي صنعها لنفسه بثبات وإصرار، متحدّياً مصاعب رياضية ومجتمعية، لعلّ في ما كسبه من التعامل معها ما سيعيله على رسم معالم المتبقّي أمامه من تجارب احترافية.

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق القدس العربي

Commentaires