المقامة الفطبولية لِفاروق مردم بك

 (في مداعبة أصدقاء أعزّاء قُبيل المونديال)

حدّثنا عيسى بن هشام، قال:

ما إنْ عرفتُ أنّ المونديال في قطر حتّى عقدتُ العزم على السفر، وادّخرتُ له ما تيسّر من مال، أربعَ سنين طوال، حتّى ضجّ من تقتيري العيال ولعنوا أبا المونديال. قلت لهم: " يا بجم، إنّ كرة القدم مفخرةُ الأُمم، خلبتْ عقولَ الرجال، وسلبتْ حلومَ ربّاتِ الحجال، وأنا أعشقُها كما تعلمون"، فردّت حرمي المصون: "إذا كان هذا هو السبب فلماذا التعب والنصب، اجلسْ على كرسيّك الهزّاز، واعشقْها على التلفاز. أنسيتَ ما يُقالُ عن قطر، وعن التبذير والبَطَر؟" أجبتُ: " كلّا يا مدام، لم أنسَ هذا الكلام، إلّا أنّ كرة القدم جديرةٌ بهذه النِعَم، وهي للبصر والبصيرة أنفعُ من قناة الجزيرة، هلّا سألتِ عمّا لها من فوائد حبيبنا العلّامة زياد بن ماجد!" ولكنّها لم تكفّ عن الشقاق والنقاق، وكاد غرامنا ينتهي بالطلاق، لولا ثلاثُ قصائد من عيون الغزل، كتبتها لها على عجل، وصرتُ أُنشدها كلّ يوم، ليلاً في غرفة النوم، إلى أن لانت واستكانت. وحين حان الحين، في ثاني شهري تشرين، ودّعتُ أهل الحارة، وامتطيتُ دابّةً طيّارة، أقلّتني من باريس، مع ألتراس الفرنسيس، إلى حاضرة الدوحة، وفرحتي لا تعدلها فرحة.

وبينا أنا في المطار، ومن حولي آلاف الزوّار، وشوشني شيطانُ شعري، فتمتمتُ في سرّي:

أتاكِ لعّيبةُ الفطبول وانتشروا / والفضلُ للغازِ والبترولِ يا قطرُ

ولستُ أنطقُ عن حقدٍ ولا حسدٍ/ فإنّ هذا قضاءُ اللهِ والقدرُ

الغازُ غازُكِ فاختالي مُنعّمةً / وما عليكِ إذا حُسّادُكِ انفزروا!

ولم أُكملْ ما ينبغي ان يُقال في شأن هذا المونديال، إذْ لمحتُ رجلاً رشيق القوام، وقد أخفى وجهه بلثام، يخترق صفوف الشرطة، وما لبث أن قفز كالقطّة، واعتلى أقرب شنطة، وصاح بالناس أن اسمعوا، وإذا سمعتم فعوا:

حيّوا معي فتيةَ المانشفتِ إنّهُمُ / هُمُ الجبابرُ إنْ فازوا وإنْ خسروا

تَزري بأصلبِ فولاذٍ عزيمتُهُمْ / وتحتَ أقدامهم يُستقدحُ الشررُ

فنٌّ وعلمٌ وتنظيمٌ ومقدرةٌ/ فباسمهم أصبحَ الفطبولُ يُختصرُ

سلوا البرازيلَ عن سبعٍ تكبّدها / وهْو الذي كان يستعلي ويفتخرُ

وكيف صيّرهُ الألمانُ مسخرةً / وعبرةً لأولي الألباب فاعتبروا

فعلا عياطُ السامعين، من مؤيّدين ومُعارضين، هذا يصيحُ أحسنتَ وأنصفت، وذاك يصرخ بل أسأتَ وأسففت، وأنا لا أنبسُ ببنت شفة، لأنّي أعرف حقّ المعرفة أنّ الشعراء يتبعهم الغاوون، وفي كلّ وادٍ يهيمون، ولم أعجبْ حين انبرى للشاعر الجرماني شاعرٌ مُلثّمٌ ثانِ، جعل من كرسيٍّ منصّة، ومصّ شفتيه مصّة، ثمّ تنحنح وقال:

هذا الشويعرُ علجٌ كاذبٌ أشِرُ / ممّن بتشبيحهم في العالم اشتُهروا

 يهذي ويحسبُ أنّ الناسَ كلَّهُمُ / من حولهِ إبلٌ أو أنّهم بقرُ

إذا البرازيلُ يوما غارَ كوكبُهُ / فطالما كان معقوداً له الظفرُ

كؤوسُهُ الخمسُ بعضٌ من مآثرهِ / وثَمَّ سادسةٌ في الأفْقِ تنتظرُ

سيكنسُ الخصمَ بعد الخصمِ فتيتُهُ / كعاصف الريحِ لا تُبقي ولا تذرُ

 شمسُ البرازيلِ في العلياء ساطعةٌ / وإنْ تبدّلتِ الأسماءُ والصُورُ

لا تخدعَنْكُمْ من الألمانِ فلسفةٌ/ لن يُطفئوا الشمسَ في عليائها... فَشَروا!

فما كان من شاعر الجرمان، وهو مُغتاظٌ غضبان، إلّا أن هجم على خصمه، ولطمهُ على خشمه، فاشتبك رهطاهما في حماسة، حتّى ضاعت الطاسة! وفي ومضة عين، سقط اللثامُ عن الشاعرين، فدُهشتُ بل صُعقتُ لمرآهُما، ولعنتُ الشيطان الذي أغواهُما، فالأوّلُ يوسفُ بن بزّي والثاني يحيى بن جابر، وكلاهما من اللبنانيّين الأكابر، خدعني ما اقترفاه من منظوم الشعر، وهما من جماعة قصيدة النثر! ولمّا اكتشف الناس أنّهما صديقان، ورأوهما يتضاحكان ويتعانقان، غضبوا وأشبعوهما شتما، ثمّ انهالوا عليهما لكما، فهُرعت ثلّةٌ من البوليس لإنقاذهما من التدعيس، وساقتهما بعيداً عن الخطر، وقرّرت طردهما من قطر. وهذا ما كان من أمرهما، بجريرة شعرهما، بعد ليلةٍ قضياها في النَظارة، على الرغم من شفاعة عزمي بشارة...

وفي هذه الأثناء، كان لا بدّ حقناً للدماء، من إبعاد البرازيليّين عن الألمان، والبرتغاليّين عن الإسبان، ومن الفصل بين الهولنديّين والبلجيك، وبين الأمريكان والمكسيك، واتّخذت السلطاتُ المعنيّة أقسى التدابير الأمنيّة بحقّ المُشاغبين والمُشاغبات، ولكنْ هيهات! فهؤلاء المُشجّعون الألتراس، على اختلاف الشعوب والأجناس، اعتادوا على الإخلال بالنظام، وعلى الهروب إلى الأمام، لا رادعَ يردعهم عن الشَطط، ولا مانعَ يمنعهم من الغَلط، باستثناء أنصارِ الديوك، مضربِ الأمثال في حُسن السلوك، فقد اكتفوا في هذه المعمعة السقيمة بالهتاف لمبابي وبنزيمة...

أكبرتُ ترفّعهم عن الصغائر، وتحسّرتُ على ابن بزّي وابن جابر. كنت آملُ لو لم يطردْهما البوليس أن أستميلَهما إلى الفرنسيس، عسى أن يهدِيَهما اللهُ سواءَ السبيل، ويُجنِّبَهما مغبّة الضلال والتضليل، فالمانشافت لم يعدْ فارسَ الميدان، على ما له من سطوةٍ وهَيْلَمان، ولم يعدِ الفطبولُ الساحرُ الجميل، كما كان جيلاً بعد جيل، من اختصاص فريق البرازيل - وأنا كنتُ من أخلص مُحبّيه، إلى أن خذلني أغلبُ لاعبيه، عندما زلّت أقدامُهم واختاروا أن يلتحقوا بالوغد بولسونارو، وأوّلُهم يا للعار، نجم نجومهم نيمار!

وفجأةً، من حيثُ لا أدري، ناداني شيطان شعري، قال دعْكَ من هذه التُرّهات، فكلُّ ما هو آتٍ آت، واحفظْ هذه الأبيات:

كلُّ الأنامِ سَبَتْ ألبابَهم كُرةٌ / فأصبحوا كيفما مالوا همُ الأُكَرُ

ولستُ أنأى بنفسي عن لُبانتهمْ/ لكنّني لا أُجاريهم إذا فجروا

منهمْ غُلاةٌ عُتاةٌ لا يطيبُ لهمْ/ إلّا التنمّرُ والتشنيعُ والهَذَرُ

يُمجّدون فريقاً واحداً أحَداً / عبرَ العصورِ كأنّ المجدَ يُحتكرُ

وكمْ فريقٍ سمَتْ يوماً بيارقُهُ / لم يبقَ منهُ ولا من نسلهِ أثرُ

كذا الحياةُ فقد تصفو وتُسعدُنا / حيناً وفي سائر الأحيانِ تعتكرُ

*

هذا كلّه وأنا ما زلتُ في المطار، والمطارُ مضروبٌ عليه الحصار، بسبب هؤلاء الهمج، فيا بديعَ الزمان متى الفرج؟

فاروق مردم بك

كاتب ومؤرّخ وناشر سوري وفرنسي

Commentaires